binthabt.al3ilm.net
114- ذكر بعض آداب الكلام
سلسة الفوائد اليومية: 114 ذكر بعض آداب الكلام ** قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماوردي في كتابه : (أدب الدنيا والدين), (ص: 282): ** وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ آدَابًا إنْ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ أَذْهَبَ رَوْنَقَ كَلَامِهِ، وَطَمَسَ بَهْجَةَ بَيَانِهِ، وَلَهَا النَّاسَ عَنْ مَحَاسِنِ فَضْلِهِ بِمُسَاوِي أَدَبِهِ، فَعَدَلُوا عَنْ مَنَاقِبِهِ بِذِكْرِ مَثَالِبِهِ. ** فَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ فِي مَدْحٍ وَلَا يُسْرِفَ فِي ذَمٍّ وَإِنْ كَانَتْ النَّزَاهَةُ عَنْ الذَّمِّ كَرَمًا وَالتَّجَاوُزُ فِي الْمَدْحِ مَلَقًا يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةٍ. وَالسَّرَفُ فِي الذَّمِّ انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ شَرٍّ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ. ** عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مُتَعَذِّرَةٌ لَا سِيَّمَا إذَا مَدَحَ تَقَرُّبًا وَذَمَّ تَحَنُّقًا. ** وَحُكِيَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَهِرْت لَيْلَتِي أُفَكِّرُ فِي كَلِمَةٍ أُرْضِي بِهَا سُلْطَانِي وَلَا أُسْخِطُ بِهَا رَبِّي فَمَا وَجَدْتهَا. ** وَسَمِعَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَجُلًا يَصِفُ رَجُلًا وَيُبَالِغُ فِي مَدْحِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَأً لِامْرِئٍ فَلَا تَغْلُ فِي وَصْفِهِ وَاقْصِدِ فَإِنَّك إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُونُ فِيهِ إلَى الْأَمَدِ الْأَبْعَدِ فَيَضْأَلُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ ** وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ لَا تَبْعَثَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ يَعْجِزُ عَنْهُمَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِمَا. فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ بِهِمَا لِسَانَهُ وَأَرْسَلَ فِيهِمَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَسْتَثْقِلْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ الْعَمَلِ، صَارَ وَعْدُهُ نَكْثًا وَوَعِيدُهُ عَجْزًا. ** وَمِنْ آدَابِهِ: إنْ قَالَ قَوْلًا حَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ صَدَّقَهُ فَعَمِلَهُ، فَإِنَّ إرْسَالَ الْقَوْلِ اخْتِيَارٌ، وَالْعَمَلَ بِهِ اضْطِرَارٌ. وَلَئِنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَقُلْ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَفْعَلْ. ** وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَلَامِ أَيْ يَكْتَفِي بِالْفِعْلِ مِنْ الْقَوْلِ. ** وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: الْقَوْلُ مَـا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ وَالْفِعْلُ مَا وَكَّدَهُ الْعَقْلُ لَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِلُّهُ مِنْ تَحْتِهِ الْأَصْلُ ** وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ يُرَاعِيَ مَخَارِجَ كَلَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِ وَأَغْرَاضِهِ فَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا قَرَنَهُ بِاللِّينِ وَاللُّطْفِ، وَإِنْ كَانَ تَرْهِيبًا خَلَطَهُ بِالْخُشُونَةِ وَالْعُنْفِ، فَإِنَّ لِينَ اللَّفْظِ فِي التَّرْهِيبِ وَخُشُونَتُهُ فِي التَّرْغِيبِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضِعِهِمَا وَتَعْطِيلٌ لِلْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ لَغْوًا وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ لَهْوًا. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إنْ كُنْت فِي قَوْمٍ فَلَا تَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ فَوْقَك فَيَمْقُتُوك، وَلَا بِكَلَامِ مَنْ هُوَ دُونَك فَيَزْدَرُوك. ** وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ لَا يَرْفَعَ بِكَلَامِهِ صَوْتًا مُسْتَنْكَرًا وَلَا يَنْزَعِجَ لَهُ انْزِعَاجًا مُسْتَهْجَنًا، وَلْيَكُفَّ عَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ طَيْشًا وَعَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ عِيًّا، فَإِنَّ نَقْصَ الطَّيْشِ أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِ الْبَلَاغَةِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَخَطِيبٌ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ لَوْلَا أَنَّك تُكْثِرُ الرَّدَّ، وَتُشِيرُ بِالْيَدِ، وَتَقُولُ أَمَّا بَعْدُ. ** وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ يَتَجَافَى هَجَرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلَامِ، وَلْيَعْدِلْ إلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ؛ لِيَبْلُغَ الْغَرَضَ وَلِسَانُهُ نَزِهٌ وَأَدَبُهُ مَصُونٌ. ** وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. قَالَ: كَانُوا إذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ كَنَّوْا عَنْهَا. ** وَكَمَا أَنَّهُ يَصُونُ لِسَانَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهَكَذَا يَصُونُ عَنْهُ سَمْعَهُ، فَلَا يَسْمَعُ خَنَاءً وَلَا يُصْغِي إلَى فُحْشٍ فَإِنَّ سَمَاعَ الْفُحْشِ دَاعٍ إلَى إظْهَارِهِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى إنْكَارِهِ. ** وَإِذَا وَجَدَ عَنْ الْفُحْشِ مَعْرِضًا كَفَّ قَائِلُهُ وَكَانَ إعْرَاضُهُ أَحَدَ النَّكِيرَيْنِ، كَمَا أَنَّ سَمَاعَهُ أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ. ** وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ: تَحَرَّ مِنْ الطُّرُقِ أَوْسَاطَهَا وَعُدْ عَـنْ الْمَـوْضِعِ الْمُشْتَبِهْ وَسَمْعَك صُنْ عَنْ قَبِيحِ الْكَلَامِ كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنْ النُّطْقِ بِهِ فَإِنَّك عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقَبِيحِ شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانتَبِهْ ** وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ أَمْثَالَ الْعَامَّةِ الْغَوْغَاءِ وَيَتَخَصَّصَ بِأَمْثَالِ الْعُلَمَاءِ الْأُدَبَاءِ فَإِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ أَمْثَالًا تُشَاكِلُهُمْ، فَلَا تَجِدْ لِسَاقِطٍ إلَّا مَثَلًا سَاقِطًا وَتَشْبِيهًا مُسْتَقْبَحًا. ** وَلِلسُّقَّاطِ أَمْثَالٌ فَمِنْهَا تَمَثُّلُهُمْ لِلشَّيْءِ الْمُرِيبِ، كَمَا قَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ: إذَا مَا كُنْتَ ذَا بَوْلٍ صَحِيحٍ ... أَلَا فَاضْرِبْ بِهِ وَجْهَ الطَّبِيبِ ** وَلِذَلِكَ عِلَّتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْأَمْثَالَ مِنْ هَوَاجِسِ الْهِمَمِ وَخَطِرَاتِ النُّفُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ لِذِي الْهِمَّةِ السَّاقِطَةِ إلَّا مَثَلٌ مَرْذُولٌ، وَتَشْبِيهٌ مَعْلُولٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَمْثَالَ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَمَثِّلِينَ بِهَا، فَبِحَسَبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ تَكُونُ أَمْثَالُهُمْ. فَلِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَمْثَالِ الْخَاصَّةِ وَأَمْثَالِ الْعَامَّةِ. ** وَرُبَّمَا أَلَّفَ الْمُتَخَصِّصُ مَثَلًا عَامِّيًّا أَوْ تَشْبِيهًا رَكِيكًا؛ لِكَثْرَةِ مَا يَطْرُقُ سَمْعَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأَرَاذِلِ فَيَسْتَرْسِلُ فِي ضَرْبِهِ مَثَلًا فَيَصِيرُ بِهِ مَثَلًا، ** كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ يَوْمًا عَنْ أَنْسَابِ بَعْضِ الْعَرَبِ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: أَسْقَطَ اللَّهُ جَنْبَيْك أَتَخَاطَبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ؟ فَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ أَعْلَمَ بِمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْكَلَامِ فِي مُحَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْأَصْمَعِيِّ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ عَصْرِهِ وَقَرِيعُ دَهْرِهِ. ** وَلِلْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلَامِ مَوْقِعٌ فِي الْأَسْمَاعِ وَتَأْثِيرٌ فِي الْقُلُوبِ لَا يَكَادُ الْكَلَامُ الْمُرْسَلُ يَبْلُغُ مَبْلَغَهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ تَأْثِيرَهَا؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ بِهَا لَائِحَةٌ، وَالشَّوَاهِدَ بِهَا وَاضِحَةٌ، وَالنُّفُوسَ بِهَا وَامِقَةٌ، وَالْقُلُوبَ بِهَا وَاثِقَةٌ، وَالْعُقُولُ لَهَا مُوَافِقَةٌ. فَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَجَعَلَهَا مِنْ دَلَائِلِ رُسُلِهِ وَأَوْضَحَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْعُقُولِ مَعْقُولَةٌ، وَفِي الْقُلُوبِ مَقْبُولَةٌ. ** وَلَهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: صِحَّةُ التَّشْبِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا وَالْكُلُّ عَلَيْهَا مُوَافِقًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْرِعَ وُصُولُهَا لِلْفَهْمِ، وَيُعَجَّلَ تَصَوُّرُهَا فِي الْوَهْمِ، مِنْ غَيْرِ ارْتِيَاءٍ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلَا كَدٍّ فِي اسْتِنْبَاطِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ تُنَاسِبَ حَالَ السَّامِعِ لِتَكُونَ أَبْلَغَ تَأْثِيرًا وَأَحْسَنَ مَوْقِعًا. ** فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ كَانَتْ زِينَةً لِلْكَلَامِ وَجَلَاءً لِلْمَعَانِي وَتَدَبُّرًا لِلْأَفْهَامِ . اهـ باختصار ** والله الموفق. ** كتبها: أبوعبد الله أحمد بن ثابت الوصابي ** الأحد 26/ 2/ 1440 هـ ** ومن أحب الاطلاع على الفوائد السابقة فمن الموقع الرسمي على الرابط : https://binthabt.al3ilm.net/11613 =================
مشرف تقني